*لودريان مجددًا: فاقد الشيء لا يعطيه!*

عاجل

الفئة

shadow


*جورج ياسمين*

في حمأة القصف وحماوة الحرب العام 1989 – عندما أعلن رئيس الحكومة الانتقالية العسكرية العماد ميشال عون حرب التحرير على سوريا – لم يهدأ ممثل اللجنة العربية الثلاثية (التي كانت تضم السعودية والمغرب والجزائر) الأخضر الإبراهيمي ولم يستكن ولم يُحبط.
بين خطوط النار والموت الذي كان يحصد العشرات كل يوم، كان يتنقّل سعيًا لاتفاق وبحثًا عن مخرج.
اللاعبون يومها كانوا معروفين ومحددين: العماد عون، سمير جعجع، البطريرك صفير، سوريا، الولايات المتحدة وحكمًا اللجنة الثلاثية. ذهب النواب إلى الطائف وعادوا لاحقًا – بعد الإطاحة بالعماد عون واسقاط بعبدا واليرزة – باتفاق يحمل اسم المدينة السعودية. لم يكن لهذا الاتفاق الذي تحول دستورًا مكتوبًا الغى ميثاق 1943 الشفهي، لم يكن له أن يُبصر النور لولا خمسة: البطريرك مار نصرالله صفير، الرئيس حسين الحسيني، الدكتور جورج سعادة، الرئيس رفيق الحريري والدكتور سمير جعجع.
احتاج الاتفاق إلى “بَرَكَة” رأس الكنيسة المارونية وموافقة رئيس أكبر حزب ماروني وغطاء القوة المسيحية الأبرز المتمثلة يومها بالقوات اللبنانية وإلى حنكة السياسي الشيعي المخضرم الرئيس حسين الحسيني وإلى حركية ومكوكية وإصرار رجل أعمال ناجح ومقرّب من أركان العائلة المالكة السعودية اسمه رفيق الحريري.
ولأن الاتفاق يطوي مرحلة مارونية بامتياز – بدأت العام 1920 وانتهت العام 1990 – ويفتح الطريق أمام طائفة صاعدة قوية هي الشيعة ويعطي السنّة ما كانوا يطالبون بتكريسه أي المشاركة – علمًا أن هذه الشراكة والمشاركة لم تغب يومًا من أيام رياض الصلح إلى سامي الصلح إلى صائب سلام إلى عبدالله اليافي إلى رشيد كرامي (خصوصًا) إلى شفيق الوزان إلى سليم الحص إلى رفيق الحريري (تحديدًا)…لأنه كذلك ، كان لا بدّ من حرب لتمريره تمامًا كما حصل العام 1711 في عين دارة و1840 بسقوط بشير الشهابي وإقامة نظام القائمقاميتين ولاحقًا المتصرفية بعد مذابح 1860 و1920 وقيام لبنان الكبير بعد ميسلون و1943 عام الاستقلال المدبّر من الإنكليز لإخراج فرنسا من لبنان وهي الخاسرة والمنهزمة أمام النازيين في الحرب العالمية و1956 وتدشين العصر الأميركي بإخراج الإنكليز من المنطقة بعد العدوان الثلاثي على مصر وجعل لبنان تحت “الوصاية” المصرية اعتبارًا من 1958 الذي شهد “ثورة” دبّرها عبد الحميد السراج وعبد الحميد غالب ومن والاهما في الداخل اللبناني كرهًا بكميل شمعون الذي لم “يبايع” نجم العالم العربي جمال عبد الناصر.
وتتالت الأحداث إلى اتفاق القاهرة 1969 بعد صدامات متتالية وتعديات متواصلة من الفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات على السيادة اللبنانية والجيش والدرك والناس والمؤسسات إلى انفجار الاحتقان في أيار 1973 بين الجيش والفلسطينيين الذين أرادوا وضع اليد على لبنان كما جربوا وحاولوا في أيلول 1970 مع الملك حسين في الأردن فما كان من الأخير إلا أن هزمهم وأخرجهم من الأردن… إلى لبنان. يومها برر الفلسطينيون اعتداءاتهم على الجيش اللبناني بأنه لم يتصدى للاسرائيليين الذي قتلوا قادة فلسطينيين بارزين في فردان في 10 نيسان 1973 ونجا عرفات الذي كان متواجدًا في غير المبنى الذي هاجمه إيهود باراك وجماعته.
الحدث الأبرز في الروزنامة اللبنانية كان العام 1975. كل ما كان تحت الرماد حراكا وعراكا وتراكمات واحتقانات منذ 1920 إنفجر في 13 نيسان في عين الرمانة. انتهت الحرب بالطائف الذي استبدل الأسبقية المارونية (أو الامتيازات) بضمانات أبرزها المناصفة مع الحفاظ على مواقع حساسة رئيسية مثل قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان ومجلس القضاء الأعلى وغيرها مما أثبتت الأحداث لاحقًا أن الشخص فيها كان أقوى أو أضعف تبعًا لشخصيته وليس لصلاحياته.
يقول سياسي مخضرم بارز رافق نشأة ومسيرة القوات اللبنانية وكان له دور كبير وباع طويل في رسم سياستها والقرار فيها، ان مدينة الطائف السعودية شهدت ليس فقط إقرار الاتفاق الذي حمل اسمها منذ 34 عامًا بل هي المدينة التي زارها الرئيس الشهيد بشير الجميل في حزيران 1982 برفقة زاهي البستاني وإيلي حبيقة حيث التقوا وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل وكانت الزيارة محطة مفصلية على طريق وصول بشير إلى رئاسة الجمهورية في 23 آب 1982. بعدها بسبع سنوات عاد النواب – اللبنانيون من الطائف وانتخبوا رينه معوض الذي استشهد يوم عيد الاستقلال 1989.
الرابط الذي يقيمه هذا السياسي ان رئيسين لبنانيين أسهمت السعودية وساعدت في وصولهما اغتيلا ولم يحكما…
الاستنتاج الآخر الذي يطرحه هو أن الاتفاق الثلاثي غاب عنه المكوّن السنّي وسقط، واتفاق الطائف استعاد من الرئيس الماروني صلاحيات أعطيت للموقع السنّي ونجح.
أما الواقع الذي يستند اليه هو أن السنّة لطالما كانوا أهل سلطة وحكم منذ الأيوبيين حتى العثمانيين ولم يكونوا يومًا خارج السلطة وداخل المعارضة إلا لمامًا ونادرًا ولفترات قصيرة لسبب يرونه منطقيًا وحقيقيًا وهو أن العالم الإسلامي الممتد من أندونيسيا وحتى موريتانيا هو سنّي وبالتالي هم الأكثرية.
أما الشيعة ودولة التشيّع الأولى ايران فهم دائمًا في موقع المُعارض وقليلاً ما كانوا في موقع الحكم والسلطة باستثناء بعض مراحل التاريخ الإسلامي أثناء الخلافة الفاطمية التي امتدت من سوريا الطبيعية وحتى المغرب. والشيعة اليوم يشكلون أقل من 20% من إجمالي عدد المسلمين في العالم.
أما المفارقة التي يلاحظها فهي أن البريطانيين الذين كانت لهم اليد الطولى في دعم قيام دولة الكيان العام 1948 وقبلها من خلال وعد بلفور العام 1917 ودخول القدس العام 1918 وإعلان الجنرال ادموند اللينبي يومها: “اليوم انتهت الحروب الصليبية”. بالرغم من هذا الإعلان الصارخ والجارح فإن العرب والمسلمين تعاملوا وتعاونوا وتحالفوا – لاحقًا – مع الإنكليز متناسين إخلالهم ونكثهم باتفاقية سايكس – بيكو وبعدها دعم ترجيح كفة عبد العزيز بن سعود مؤسس المملكة العربية السعودية على الشريف حسين بن علي الذي وعده الإنكليز بتنصيبه ملكًا على الحجاز وبلاد العرب إذا ما انقلب على العثمانيين في الحرب العالمية الأولى وانتهى به الأمر منفيًا بسبب تصديقه الوعود الإنكليزية. المفارقة ان العرب مالئوا الإنكليز وكرهوا الفرنسيين وعادوهم لسبب ظاهري هو أن هنري غورو المفوض السامي الفرنسي حارب الأمير فيصل نجل الشريف حسين في موقعة ميسلون في تموز 1920 حيث استشهد وزير الحربية السورية يوسف العظمة ودخل دمشق ووقف على قبر صلاح الدين وقال له: “ها قد عدنا يا صلاح الدين” – في عبارة تصب في الخانة عينها التي أرادها من قبله الجنرال اللينبي في القدس.
لكن السبب الرئيسي في رأيه لكره العرب والمسلمين للفرنسيين هو إسهامهم المباشر في قيام لبنان الكبير (قبل قيام الكيان العبري بـ28 سنة) وإعطاء المسيحيين دولتهم في الشرق المسلم.
منذ ذاك الوقت وسوء التفاهم مستمر ومزمن بين العرب وفرنسا رغم ان قيام اسرائيل أشد وطأة وأدهى وأفظع ولا يُقارن بما فعله الفرنسيون “المساكين” قياسًا على “إنجازات” الإنكليز “المحنكّين”.
يعرف الجميع أن الإنكليز سيطروا على الخليج أرضًا ونفطًا وإمارات وممالك ومشيخات ولاحقًا أخلوا مكانهم لأبناء عمومتهم الأميركيين وخرج الفرنسيون من المنطقة ولم يبقَ لهم مرقد عنزة ولا موطئ قدم سوى لبنان وبالكاد.
منذ أيام عاد جان إيف لودريان مجددًا، عود على بدء، لا جديد سوى تكرار معزوفة واجترار مندوحة: التحذير من الشر المستطير – وكأن اللبنانيين غافلون عما أصابهم وبحاجة إلى من يذكرهم بواقعهم البائس وطاقمهم السياسي التاعس.
هذه المرة تجشّم لودريان عناء السفر ليقرع ناقوس الخطر في ملفين خارج الرئاسة المنسية: الجنوب والتمديد لقائد الجيش.
فرنسا وأوروبا التي دعمت الحرب على سوريا ودول “الربيع العربي” وتسببت مع واشنطن في العواقب والتداعيات والانهيارات في دول الشرق الأوسط وآخرها فلسطين مع السقطة المخجلة لماكرون أمام نتنياهو، تريد من لبنان أن يحميها من موجات اللجوء وان يطبق القرار 1701 – في إشارة واضحة إلى تبنّي الموقف الأميركي – الإسرائيلي والتطابق معه.
لم تعد فرنسا مهتمة بالرئاسة في لبنان – وهي بالأصل لم تكن مؤهلة للعب هذا الدور ومستعدة له. اليوم فرنسا – وكل أوروبا – ضعيفة وأميركا متجبّرة تريد لشعوب المنطقة أن يسجدوا لمولوخ القرن الـ21.
أما العرب فيصح فيهم قول المتنبّي: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم…

الناشر

هدى الجمال
هدى الجمال

shadow

أخبار ذات صلة